"المكتبات الخاصة" - 20 نوفمبر 2013
2021-10-11 509
أَعزُّ مكانٍ في الدُّنا سَرْجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزَّمانِ كِتابُ
هكذا قالَ أبوالطيِّبِ المتنبِّي قبلَ أكثرَ مِنْ ألفِ سنةٍ، ومازالتِ الألسنةُ تُكَرِّرُ ما قالَهُ، آخذةً به، مُعيدةً لَهُ، مُثْنِيَةً عليه.
الكتابُ.. ذلكَ الصاحبُ الذي لا يُمَلُّ، والصديقُ الذي لا يُسأَمُ، والرَّوضةُ التي لا تَذْبُلُ أزهارُها، ولا تَسْكُتُ أطيارُهَا، والكنْزُ الذي لا يُنْقِصُهُ إِنفاق، ولا يُخشى عليه اللُّصُوصُ ولا السُّرَّاق.
ظلَّ الكتابُ على مرِّ تاريخِ الإنسانِ مستودعًا لأفكارِهِ، وناشرًا لأسرارِهِ، يَسقيهِ العالِمُ، ويَسْقي هو المتعلِّمَ، يخلو به المرءُ فتُطْوَى لهُ الأزمانُ، وتُطِلُّ عليهِ الدُّهُورُ، وتناجيهِ العِبَرُ، وتُشْجِيْهِ العِظَاتُ، وتَصْقُلُهُ التجارِبُ، وتُدْهِشُهُ العجائبُ.
ومِنْ هُنا كان (الكتابُ) سميرَ الباحثِ، وأنيسَ العالمِ، يَحْرِصُ على اقتنائِهِ، ويبذُلُ الغاليَ والنفيسَ للحصولِ عليهِ، وكم في تُراثِنا من صورٍ مشرقةٍ من هذا الحرصِ على الكُتُبِ، والجِدِّ في جمعِها.
وإذا كانَ تاريخُنا الإسلاميُّ غنيًّا بالمكتباتِ العامَّةِ الكبرى، كبيتِ الحكمةِ في بغدادِ، ودارِ الحكمةِ في القاهرةِ، ومكتبةِ الخلفاءِ الفاطميينَ في القاهرةِ، والظاهريةِ في دمشقَ، وغيرِها فإنّه غنيٌّ أيضًا بالمكتباتِ الخاصةِ التي أسَّسَها رجالٌ أَخْلَصُوا للعلمِ، وأَرْخَصُوا لهُ مالَهُمْ وجاهَهُمْ، كمَكتبةِ الخليفةِ الحكمِ في الأَنْدَلُسِ، وقد كانَ فيها أربعُمائةِ ألفِ مجلدٍ، ومكتبةُ الفتحِ بنِ خاقانِ وقد قيلَ: إنّه اجتمعَ فيها ما لم يجتمعْ في خِزَانةٍ قطُّ، ومكتبةُ جمال الدينِ القِفْطِيِّ الذي شُهِرَ بتتبُّعِهِ للكتبِ ومرضِهِ عندَ فَقْدِها، ومكتبةِ بني عمَّارٍ في طرابلس وكان فيها مئةٌ وثمانون ناسخًا ينسخونَ بالليلِ والنهارِ، ومكتبةُ ابنِ الخشَّابِ النَّحْويِّ، وكانَ من أولعِ الناسِ بالكُتُبِ.
والمكتباتُ الخاصَّةُ ذاتُ نَكْهةٍ قد لا نجدُها في المكتباتِ العامةِ، ففيها النوادرُ التي يقتنصُها أصحابُها، وفيها تعليقاتُ أَرْبَابـِها من العلماءِ والأدباءِ، وفيها أيضًا الوثائقُ والمراسلاتُ والمكاتباتُ التي ترتفعُ قيمتُها بقدرِ ارتفاعِ قيمةِ أصحابـِها، فقد قال فيلسوفٌ غربيٌّ وصَدَقَ: "لو تحطَّمَتْ كلُّ الآلاتِ الحديثةِ ومعاملُ الذرَّةِ وبقِيَتِ المكتباتُ لتَمَكَّنَ رجالُ العصرِ من إعادةِ بناءِ هذهِ الحضارةِ الآليةِ والذريةِ، ولكن لو تحطمتِ المكتباتُ فإنَّ عصرَ القُوى الآليةِ وعصرَ الذرةِ يصبحانِ شيئًا من آثارِ الماضي"!
إنَه ليحقُّ لنا في بلادِ الحرمينِ أن نفخرَ بأولِ مكتبةٍ شخصيةٍ في تاريخِنا الحضاريِّ، وهي مكتبةُ محمدِ بنِ جُبير بن مُطْعِمٍ أحدِ أئمةِ التابعينَ، وكان ابن جُبيرٍ هذا قد جمعَ كتبَهُ كلَّها في بيتٍ، وأغلقَ عليهِ بابًا، ودفعَ الـمِفْتاحَ إلى مولاةٍ له، وقال لها: مَنْ جاءكِ يطلُبُ منكِ ممّا في هذا البيتِ شيئًا فادفعي إليه الـمِفتاحَ ولا تُذْهِبي من الكُتُبِ شيئًا! فكانتْ أولَ مكتبةٍ خاصةٍ تُفتحُ للجمهورِ في تاريخِ الإسلامِ.
وقد شهدتْ مكةُ المكرمةُ أيضًا سلسلةً طويلةً من المكتباتِ الخاصّةِ المذكورةِ قديمًا وحديثًا، كمكتبةِ الأميرِ شرفِ الدينِ، ومكتبةِ تقيِّ الدينِ الفاسيِّ، ومكتبةِ الكُرديِّ، ومكتبةِ الشيخ محمد سرور الصبان، ومكتبةِ الشاعرِ الغزاوي، ومكتبةِ الشيخِ علوي شَطَا، والشيخِ عبدالله بن دهيش، والشيخِ حسن مشاط، والشيخِ حسين فدعق، والأستاذِ أحمد محمد فقي، وغيرِهم.
إنَّ هذه الكنوزَ الهائلةَ من المكتباتِ الخاصَّةِ تُوجبُ على المؤسساتِ العلميةِ الثقافيةِ أن تُوليَها عنايتَها، وتشملَها برعايتِها.